شدني فيديو متداول للدكتور غابور ماتيه، حيث تحدث فيه عن العلاقة العميقة بين الصدمات النفسية في الطفولة وبين الأمراض المزمنة والإدمان والصحة النفسية. كان حديثه مدعومًا بأدلة علمية قوية، مما دفعني إلى البحث أكثر عن أفكاره، وقراءة كتبه وأبحاثه المنشورة على الإنترنت. وجدت أن ماتيه ليس مجرد طبيب أو باحث، بل هو مفكر يسعى لفهم الأسباب العميقة لمعاناة الإنسان، بدلاً من الاكتفاء بعلاج الأعراض فقط.
يرى ماتيه أن معظم الأمراض النفسية والجسدية والإدمان ليست مجرد مشكلات معزولة، بل هي انعكاسات لتجارب الطفولة الصادمة التي تؤثر على الدماغ والجهاز العصبي والعلاقات الاجتماعية للفرد. في هذه المقالة، سأستعرض أبرز أفكار الدكتور ماتيه حول تأثير صدمات الطفولة على الصحة، وكيف يمكن للأفراد تجاوز آثارها لتحقيق الشفاء النفسي والجسدي.
ما هي الصدمة النفسية في الطفولة؟
الصدمة النفسية في الطفولة ليست بالضرورة حدثًا دراميًا واحدًا مثل سوء المعاملة أو الإهمال الصريح، لكنها قد تكون أيضًا نتيجة لعوامل متراكمة مثل الحرمان العاطفي، وعدم تلبية الاحتياجات النفسية للطفل، أو حتى عدم الشعور بالقبول من قِبل الأبوين والمجتمع.
يقول ماتيه:
“ليست الصدمة في الحدث نفسه، بل في ما يحدث داخل الشخص نتيجة لهذا الحدث.”
(Maté, G. (2008). In the Realm of Hungry Ghosts: Close Encounters with Addiction. North Atlantic Books.)
الصدمات والمرض الجسدي
يربط ماتيه بين الصدمات النفسية في الطفولة والعديد من الأمراض الجسدية المزمنة مثل أمراض المناعة الذاتية، السرطان، وأمراض القلب، حيث يرى أن التعرض المستمر للضغط النفسي والتوتر يؤدي إلى إفراز مستمر لهرمونات التوتر مثل الكورتيزول، مما يضعف جهاز المناعة ويجعل الجسم عرضة للأمراض المزمنة.
في كتابه “عندما يقول الجسد لا” (When the Body Says No: The Cost of Hidden Stress), يوضح ماتيه العلاقة بين الضغط النفسي والأمراض الجسدية، قائلاً:
“يُترجم التوتر غير المُعالج في النهاية إلى أمراض جسدية، حيث يبدأ الجسد في التعبير عن الألم النفسي بطرق متعددة، قد تكون على شكل التهاب مزمن أو مرض مناعي ذاتي.”
(Maté, G. (2003). When the Body Says No: The Cost of Hidden Stress. Alfred A. Knopf Canada.)
الصدمات والإدمان
يُعرّف ماتيه الإدمان بأنه ليس مجرد مشكلة سلوكية، بل هو وسيلة للهروب من الألم النفسي العميق الذي نشأ نتيجة صدمات الطفولة. يرى أن الإدمان، سواء كان تعاطي المخدرات، الإفراط في تناول الطعام، أو حتى إدمان العمل، هو محاولة غير واعية لملء الفراغ العاطفي والتعامل مع مشاعر الرفض أو الهجر التي نشأت في الطفولة.
يقول ماتيه:
“الإدمان ليس اختيارًا، بل استجابة للألم العاطفي العميق الذي لم يتم التعامل معه بالشكل الصحيح.”
(Maté, G. (2010). In the Realm of Hungry Ghosts: Close Encounters with Addiction. North Atlantic Books.)
كيف تؤثر الصدمات على تكوين الشخصية؟
وفقًا لماتيه، فإن تجارب الطفولة الصادمة تساهم في تشكيل أنماط التفكير والسلوك لدى الأفراد. فالطفل الذي لم يحصل على الحب والقبول قد ينشأ بشخصية تسعى دائمًا لإرضاء الآخرين خوفًا من الرفض. بينما الطفل الذي تعرض للانتقاد المستمر قد يصبح شخصًا يعاني من تدني تقدير الذات والقلق المزمن. يستند ماتيه في تحليله إلى دراسات علم الأعصاب التي توضح كيف تؤثر الصدمات النفسية على الدماغ، حيث قال في مقابلة مع مجلة العلوم العصبية السريرية (Journal of Clinical Neuroscience): “أدمغة الأطفال الذين يعانون من الصدمات تتطور بطريقة مختلفة، حيث تكون لديهم استجابة مبالغ فيها للتوتر، مما يجعلهم أكثر عرضة للقلق والاكتئاب في المستقبل.” (Maté, G. & Perry, B.D. (2019). The Impact of Early Trauma on Brain Development. Journal of Clinical Neuroscience.)
دور البيئة والتربية والوراثة
على الرغم من أن الصدمات تلعب دورًا رئيسيًا في تكوين شخصية الإنسان وصحته، إلا أن هناك عوامل أخرى تلعب دورًا أيضًا، مثل البيئة التي نشأ فيها الشخص، وطريقة تربية الوالدين له، والاستعداد الوراثي لبعض الاضطرابات. ومع ذلك، يؤكد ماتيه أن البيئة العاطفية التي ينمو فيها الطفل لها تأثير أكبر من العوامل الجينية.
دليل علمي على تأثير البيئة مقابل الجينات
في دراسة نُشرت في مجلة علم النفس التنموي (Developmental Psychology), أظهرت الأبحاث أن الأطفال الذين نشأوا في بيئات داعمة تمكنوا من التغلب على الصدمات، بينما كان الأطفال الذين نشأوا في بيئات قاسية أكثر عرضة للاضطرابات النفسية.
(Van IJzendoorn, M. H., & Bakermans-Kranenburg, M. J. (2019). Attachment and Early Stress: A Developmental Perspective. Developmental Psychology.)
كيف يمكن الشفاء من آثار الصدمات؟
يؤكد ماتيه أن الشفاء من آثار صدمات الطفولة ممكن من خلال الوعي والاعتراف بالألم الذي نحمله منذ الصغر. يقترح عدة استراتيجيات لمساعدة الأفراد على التعافي، منها:
١- التواصل مع المشاعر الحقيقية – التعرف على العواطف غير المعالجة والتعامل معها بوعي. ٢- العلاج النفسي والتأمل – استخدام أساليب مثل العلاج السلوكي المعرفي أو التأمل لتهدئة الجهاز العصبي. ٣- إعادة بناء العلاقات الصحية – البحث عن علاقات تدعم الشعور بالأمان العاطفي. ٤- التسامح مع الذات – إدراك أن الألم الذي نحمله ليس خطأنا، والعمل على العناية بالنفس بطرق صحية. يقول ماتيه: “الشفاء لا يعني نسيان الماضي، بل يعني التوقف عن السماح له بالتحكم في حاضرنا.” (Maté, G. (2018). The Myth of Normal: Trauma, Illness & Healing in a Toxic Culture. Avery Publishing.)
الخاتمة
يرى الدكتور غابور ماتيه أن صدمات الطفولة ليست مجرد أحداث مر بها الإنسان في الماضي، بل هي أنماط تترسخ في أعماق النفس وتنعكس في الصحة الجسدية والعقلية وحتى في العلاقات الشخصية. ومع ذلك، فإن الفهم العميق لهذه الصدمات والعمل على الشفاء منها يمكن أن يساعد الأفراد على استعادة توازنهم النفسي والجسدي وبناء حياة أكثر صحة وسعادة.
متخصصة في علوم الحاسب والتعليم الرقمي، مدربة ومحكمة معتمدة في جوائز التميز.
أمتلك خبرة في الإشراف التربوي، إدارة المشاريع، وتصميم البرامج التدريبية في التميز المؤسسي والذكاء الاصطناعي. شاركت في مؤتمرات علمية، وألفت كتبًا في تطوير التعليم والقيادة. أعمل على تصميم المواقع، تحليل البيانات، وتطوير التطبيقات التعليمية لدمج التقنيات الحديثة في التعلم.
معلومة جديدة علي ،:(