الجزاء من جنس العمل:جذور فلسفية في الأديان

الجزاء من جنس العمل:جذور فلسفية في الأديان


إذا كانت الأديان تُقدم “الجزاء من جنس العمل” كقانون إلهي، فإن الفلسفة تتعامل معه كسؤال وجودي: كيف تُشكِّل أفعالنا مصيرنا؟ هل الجزاء مجرد عقاب أو ثواب، أم هو انعكاس طبيعي لِما نزرعه في أنفسنا؟ هذا المقال يغوص في البُعدين الديني والفلسفي لهذا المبدأ، مع استحضار نصوص إسلامية وحِكمٍ عالمية تُجسِّد فكرة أن “الإنسان ابن فعله”، سواء في الدنيا أو الآخرة.

1. الفلسفة والدين: وجهان لقانون واحد

أ. الفلسفة والبحث عن العدل الكوني:

أفلاطون في كتابه “الجمهورية”: يرى أن الظلم يُفسد النفس قبل أن يُدمر المجتمع، وأن السعادة الحقيقية تأتي من الانسجام الداخلي الناتج عن الفضيلة.
كانط في “الأخلاق المطلقة”: يؤكد أن الفعل الأخلاقي يجب أن يكون غايةً بذاته، لأن العواقب – حتى لو تأخرت – ستعكس نبل النية أو دناءتها.
الفلسفة الشرقية: تُشبه “الكارما” قانون فيزيائي روحي، حيث الأفعال – كالذبذبات – تُحدث ترددات تعود إلى صاحبها.
ب. الأديان: الوحي يُفسر السنن الكونية

الإسلام: يجمع بين البُعد الغيبي (الثواب الأخروي) والبُعد المادي (العواقب الدنيوية)، كما في قوله تعالى:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ (الروم: 41).
هنا، الفساد البيئي ليس عقابًا، بل نتيجة طبيعية للجشع البشري.
المسيحية: “لا تضلوا! الله لا يشمخ عليه. فما يزرعه الإنسان إياه يحصد” (غلاطية ٦:٧). الزرع والحصاد هنا ليسا مجازًا، بل قانونًا أخلاقيًّا مرتبطًا بخلق الإنسان.

2. الجزاء في الإسلام: بين الحكمة الإلهية والحتمية الفلسفية

أ. القرآن: الفعل وصداه الوجودي

العدل:
﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ (فصلت: 46).
النفي هنا ليس فقط عن الظلم، بل عن العبثية؛ فكل جزاء مُتناسب مع الفعل بحكمة لا يعلمها إلا الخالق.
الرحمة:
﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ﴾ (الإسراء: 7).
الإحسان هنا فعل وجودي يُعيد تشكيل الذات قبل أن يُغيّر الواقع.

ابن عربي: يرى أن أفعال الإنسان تُظهر حقيقته الخفية، فـ “الجزاء” ليس عقابًا خارجيًّا، بل كشفًا لما في الباطن.
الجاحظ: في كتابه “التبصرة” يربط بين سوء الخلق وعزلة الإنسان، كجزاء طبيعي ينبع من تنافر الأخلاق مع الفطرة.

3. حوار بين العلم والفلسفة الدينية

أ. العلم الحديث يؤكد السنن الكونية:

نظرية الفوضى (Chaos Theory): “رفرفة فراشة في الصين قد تُسبب إعصارًا في الأمازون”، وهي فكرة تعكس ترابط الأفعال وعواقبها غير المُتوقعة، تمامًا كالحديث النبوي:
«مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ» (مسلم).
علم النفس التطوري: البشر مُبرمجون بيولوجيًّا على مبدأ “المعاملة بالمثل” (Reciprocity)، وهو ما يُفسر انتشار فكرة “الجزاء” في كل الثقافات.
ب. أمثلة عملية:

الفساد الأخلاقي: دراسة في جامعة ستانفورد (2021) تربط بين الكذب المُتكرر وضمور منطقة “اللوزة الدماغية” المسؤولة عن الشعور بالذنب، مما يُظهر أن الجزاء يبدأ من تدمير الذات.
العطاء:
«الصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار» (الترمذي)،
بينما تؤكد دراسة في “هارفارد” (2020) أن العطاء يُحفز إفراز الدوبامين، مما يربط بين الجزاء الروحي والبيولوجي.

4. الفلسفة الإسلامية: لماذا الجزاء من جنس العمل؟

التناسب بين الفعل والجزاء: لو عُوقب الكذب بمرض جسدي – مثلًا – لانفصلت الروح عن الجسد في المنظومة الأخلاقية. لكن حين يكون الجزاء معنويًّا (كفقدان الثقة)، يصبح درسًا لاستعادة التوازن.
الحرية والمسؤولية: يقول علي بن أبي طالب: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ»، وهي دعوة لوعي أن الأفعال ليست لحظية، بل تُخلّد في سجل الوجود.

الخاتمة: الفعل الإنساني بين النسبية والمطلق

إذا كانت الفلسفة تُعلمنا أن الأفعال نسبية (حسب السياق والنية)، فإن الأديان – خاصة الإسلام – تُذكّرنا بأن هناك مطلقًا أخلاقيًّا يحكمها:

﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ (النجم: 39).
فالسعي هنا ليس مجرد حركة، بل حوار بين إرادة الإنسان وحكمة الخالق، حيث يُصبح كل فعل لبنة في بناء مصيرٍ لا ينفصل عن ناموس الكون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *